افتتاحية العدد - المجلد 34، العدد 3، نوفمبر 2022 م، ربيع الثاني 1444ه
افتتاحية العدد
تواصل المجلة سعيها إلى نشر الأبحاث العلمية الرصينة من خلال التزامها بالمعايير الدولية للأبحاث المنشورة، والتي تحاكي معايير المجلات ذات معامل التأثير، والاهتمام بالأبحاث التي تعالج القضايا التربوية والنفسية المختلفة بصورة علمية وتطبيقية؛ لتقدِم حلولًا جذرية لتلك المشكلات، إضاقة لتركيزها على البحوث ذات المواضيع والمتغيرات المعاصرة، والتي تُشكل تحديًا لتقدم المجتمعات وتطورها، مما يُلقي على عاتق إدارة المجلة وهيئة التحرير المزيد من الحرص، والدقة، والمسؤولية، في اختيار تلك الأبحاث التي تتماشى وتوجهات المجلة للمضي قُدمًا نحو التّطور، والتّميز، والريادة، والإبداع.
إنَّ البحوث الرصينة التي تُحدث أثرًا واضحًا في معالجة القضايا، والتَّحديات النفسية، والتَّربوية، والعلمية، التي تواجه المجتمعات، وبما يخدم تطور ورقي تلك المجتمعات وازدهارها، تحتاج لباحث يتّسم بمواصفات عديدة من أهمها، قدرته على التفكير الناقد؛ فالباحث المفكر تفكيرًا ناقدًا يمتلك عقلًا تحليليًا تقييميًا وحُكميًا يستطيع من خلالها، وبعين ثاقبة، تحسس المشكلات والنظر إليها من زواياها المختلفة بكلِّ موضوعية، وبكلِّ تجردٍ عاطفي وذاتي بعيدًا عن التحيزات والأهواء الشخصية، ومن ثَمَّ تحديدها بصورة دقيقة، وبلورتها بالشكل المناسب بعد الرجوع للأُطر النظرية والدراسات السابقة ذات الصلة والتَّعمق بها؛ ذلك أنَّ الباحث المفكر تفكيرًا ناقدًا قادرٌ على تحليل العوامل التي قد يكون لها أثرٌ أو دورٌ في المشكلة التي يسعى لبحثها وحلها، وقادرٌ على تحديد المنهجية المناسبة التي تقوده لتحقيق الأهداف المحددة، كذلك يكون لديه معرفة بماهية مجتمع الدراسة، ويمتلك آلية تحديد عيِّنة المشاركين الذين تنطبق عليهم مواصفات إجراء البحث، إضافة لامتلاكه القدرة على تحديد الأسئلة أو الفرضيات المناسبة، وذات العلاقة بالبحث والوقت المناسب كذلك لإجراء البحث، وهذا بطبيعة الحال يقود للتوصل للنتائج ومناقشتها بكلِّ عمق، وتقديم التوصيات المنبثقة من النتائج التي توصل إليها البحث.
فكلّما كان الباحث مفكرًا تفكيرًا ناقدًا كان بحثه أكثر عمقًا وشمولًا وأكثر رصانة؛ ذلك أنَّ المفكر تفكيرًا ناقدًا ينعكس تفكيره على جودة عمله، وبحثه، ويتميز بالخصائص والسمات الآتية: القدرة على التَّأقلم مع الواقع المتجدد والمتسارع، الذي لا يترك لنا الوقت الكافي لفهمه قبل أن يتغير ثانية بطريقة لا يمكن توقعها، والقدرة على تقييم الأمور على أسس منطقية من خلال طرح الأسئلة المهمة وذات الصلة، والتي تساعد على تقييم البدائل المتوافرة لدعم فكرة ما، والقدرة على فهم القضايا الصعبة والشائكة من خلال تحليلها، وتفكيكها لأجزاء صغيرة، يمكن التعامل معها بسهولة، وإجراء المقارنات بينها، وفهم العلاقات بينها، والقدرة على إصدار الأحكام بموضوعية حول مصداقية المراجع والمصادر التي تم الرجوع إليها، والبحث عن الأدلة والشواهد الداعمة بتأنٍ، والقدرة على التمييز بين الأسباب والنتائج وبين الحقائق والآراء والاتجاهات، والقدرة على الحكم بمنطقية الحجج والبراهين المطروحة، والقدرة على صياغة الفرضيات السليمة، ووضع الافتراضات الموضوعية، والقدرة على القيام باستدلال استقرائي واستنباطي، يتّسم بالدقة مع أخذ الحيطة والحذر، كذلك يمتاز المفكر الناقد بأنَّه منفتح العقل، ولديه قابلية على الانتقال بسهولة من قناعة سابقة إلى قناعة أفضل بتوفر الدليل، ويدرك حين يبدأ في تكوين قناعة من قناعاته أنَّه ربما يقف ذات يومٍ على معلومات جديدة تدعوه إلى التخلي عنها، ولا يقبل الأمور والمعطيات دونما وضعها في ميزان النقد من جميع النواحي، ولديه القدرة على التعلم ذاتيًا بدرجة كبيرة.
نحن في العصر الذي نعيش فيه لا نحتاج فقط لباحث مفكرًا تفكيرًا ناقدًا، بل نحتاج أيضًا إلى قارئ مفكرٍ تفكيرًا ناقدًا، وإلى مواطنين مفكرين تفكيرًا ناقدًا، فالتفكير الناقد مطلوبٌ من كل شخص أيا كان موقعه، وتخصصه، وعمله، ويريد أن يكون شخصًا منتجًا ومستقلًا بشخصيته واثقًا بنفسه، يتمتع بأمن نفسي وفكري، وقراراته صائبة ومؤثرة إيجابا بالآخرين، يتمتع بجودة الحياة؛ ذلك أنَّ التفكير الناقد لم يعد ترفًا أو من الأشياء الكمالية، بل أصبح ضرورة ملحة لتلبية حاجة لدى فئة واسعة من أفراد المجتمع؛ للارتقاء بمستوى تفكيرهم، وفكرهم، وإكسابهم مهارات التعامل مع الكمّ الهائل من المعلومات، والمعارف، والأخبار، والتي تبث من قبل وسائل الإعلام المختلفة المعروفة المصدر وغير المعروفة المصدر، والتي يتعرض لها الأفراد بشكلٍ يومي بكل اقتدار وفعالية من خلال إكسابهم مهارات التَّحليل، والتَّقييم، والتَّحقق، وبناء الافتراضات، والاستدلالات الاستنتاجية، والاستقرائية الصّحيحة، وإصدار الأحكام والقرارات الصائبة والمناسبة، الأمر الذي ينعكس على قدرتهم للتميز بين ما هو صحيح، وما هو خطأ، وما هو مفيد نافع، وما هو ضار.
عضو هيئة التحرير
أ. د. مصطفى قسيم الهيلات
* * *