Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

افتتاحية العدد - قيود الدراسة (Limitations)- رياض الحسن

افتتاحية العدد


قيود الدراسة (Limitations)


      إن السياسة الجديدة للمجلة في كتابة مقدمة العدد، وتحول كتابتها نحو نقاش نقاط أساسية عن البحث العلمي ذات علاقة بما يصل المجلة من أبحاث، وما يتكرر من ملاحظات تكاد أن تكون سمة مصاحبة للبحث التربوي المكتوب باللغة العربية، سواء المنشور في عموم المجلات العربية أو الصادر كرسائل طلاب دراسات عليا. كل ذلك قادني في هذه المقدمة إلى أن أبرز أهمية قيود الدراسة (Limitations) لما يلحظ من غياب لها في البحوث العربية، أو عدم دقة في تناولها، أو ضعف في عرضها مقارنة بأجزاء البحث الأخرى.

      تعد قيود الدراسة نقاط القصور في تصميم البحث ومنهجيته التي أثرت عل تطبيق البحث أو تفسير نتائجه، أو إنها قيود فرضت على الباحث نتيجة عوامل خارجة عن سيطرته، وقد تكون تلك القيود مبنية ضمنا في منهجية الدراسة بعلم أودون علم الباحث. ومن المهم إشعار القارئ بتلك القيود إذ تعطي مستوىً عاليًا من المصداقية لاستنتاجات البحوث المنشورة، وهذا يتجاوز مجرد سرد مقتضب للحدود الزمنية أو الموضوعية أو المكانية التي تعرض في معظم الأبحاث المقدمة للنشر، ومع أن القيود تظهر لدى بعض الباحثين أو القراء على أنها تمثل نقاط ضعف في البحث، فإن عرضها يعطي مصداقية للباحث، وانطباعًا بوعيه ببحثه وإجراءاته، ونطاق تعميم نتائجه وبالإضافة إلى ذلك، فإن عرض قيود الدراسة يعد عنصرا أخلاقيا في البحث العلمي، ويضمن شفافية الباحثين، ويوفر قابلية تعميم النتائج أو استنساخ الأساليب، كما أن عرضها يدعم التفسير الصحيح للنتائج، فمناقشة القيود يضع نتائج البحث ضمن سياقها الصحيح لضمان قدرة القارئ عل التأكد من مصداقية استنتاجات الباحث بشكل كامل، وإمكانية تعميم النتائج بصورة مناسبة.

      وبتتبع البحوث العربية ومحاولة فهم الأسباب المحتملة لغياب عنوان قيود الدراسة في الكثير منها، فيمكن الخروج ببعض الأسباب المحتملة الآتية: بعض الباحثين قد لا يدرك أهمية قيود دراستهم وآثارها عل النتائج المحصلة، أو يفترضون أن مناقشتها قد يضعف فرصة قبول البحث للنشر، وأنهل تمثل عيوبا لا يفترض تنبيه المحكمين أو القراء لها، وقد يكون غيابها بسبب محدودية عدد الكلمات التي تفرضها المجلات على الباحثين، وبالتالي قد يرى بعض الباحثين أن قيود الدراسة تعد جزءا يمكن التنازل عنه أو يمكن اختصاره مقارنة ببعض الأجزاء الأخرى التي يرون أهميتها. وثمة سبب آخر محتمل لاستبعاد عرض القيود وهو افتراض بعض الباحثين الخاطئ أن هيئة تحرير المجلة أو محكمي البحث مسؤولون عن الكشف عن تلك القيود.

      وبغض النظر عن سبب عدم عرض قيود الدراسة ومناقشتها بشكل مقبول، فإن على الباحثين تجاه المجتمع الأكاديمي الالتزام بتقديم قيود دراساتهم كاملة وصادقة، وذلك بعرض القيود المحتملة وقت إجراء الدراسة، وشرح الآثار المترتبة عليها، ووصف الخطوات المتخذة للحد من تأثيرها عل نتائج البحث، كما أن عليهم تحديد نوع القيد، وتحديد مصدره، بما يساعد القراء على تفسير النتائج وتعميمها بشكل مناسب.

      وللتوضيح يمكن أن نعرض عددا من القيود المحتملة التي يمكن أن تحدث في مراحل مختلفة من إجراء البحوث التربوية؛ فقد تنشأ بعض القيود من الخيارات الواعية التي اتخذها الباحث لتضييق نطاق الدراسة، فعلى سبيل المثال، قد يصمم الباحث الدراسة لفئة عمرية معينة، أو لجنس محدد، أو لمنطقة جغرافية محددة، أو يربطها ببعض السمات الأخرى التي من شأنها أن تحد من تعميم النتائج، وتنطوي هذه الحدود على قرارات يتخذها الباحث مسبقا لاستبعاد أو إشراك عينات محددة، وهذه القرارات قد تمثل تحيزًا منهجيا أدخله الباحث عمدًا في تصميم الدراسة، وسيساعد الوصف الواضح لتلك القيود ومبرراتها المحررين والمحكمين والقراء في فهم أي مسائل منهجية في البحث، وبالتالي في فهم النتائج النهائية التي وصل إليها البحث.

      ومن الأمثلة الأخرى للقيود التي قد تظهر في أثناء جمع البيانات: إمكانية تأثير الباحثين على كيفية استجابة المشاركين لأسئلتهم، فعلى سبيل المثال، حتى عندما تستخدم أساليب مناسبة لأخذ العينات، فإن بعض الدراسات تظل محدودة باستخدام البيانات التي جمعت فقط من المشاركين الذين قرروا المشاركة في الدراسة (تحيز الاختيار الذاتي). وفي بعض الحالات، قد يقدم المشاركون بيانات متحيزة عبر الرد عل الأسئلة التي يعتقدون أنها تلائم توجهات الباحث أو الجهات الرسمية، بدلا من تقديم قناعاتهم الحقيقية (تحيز الرغبة الاجتماعية). وقد يؤثر المشاركون على البيانات التي يتم جمعها عن طريق تغيير سلوكهم عند ملاحظتهم عن علم (تأثير هاوثورن)، أي ميل الأشخاص للعمل بجهد أكبر عند كونهم تحت المراقبة، أو عند إدراكهم أنهم جزء من تجربة علمية.

      وقد تنشأ بعض قيود الدراسة نتيجة لنوع التحليل الإحصائي المستخدم، فبعض الدراسات لا تتبع المبادئ الأساسية للتحليلات الإحصائية الاستدلالية عند استخدامها العينات المتوفرة أو القصدية (أي أخذ العينات غير الاحتمالية) بدلا من أخذ عينات عشوائية من مجتمع مستهدف. وهناك قيود أخرى يمكن أن تنشأ عند استخدام تحليلات إحصائية غير مخطط لها ولم تحدد قبل التحليل الأولي، فقد يؤدي التحليل اللاحق غير المخطط له إلى ظهور علاقات إحصائية توحي بالارتباطات، ولكنها ليست أكثر من نتائج مصادفة. وبالتالي، يفترض على الباحثين الإشارة بوضوح إلى التحليلات البعدية غير المخطط لها، وذلك في موضع مناسب للسماح للقارئ بتكوين التفسيرات والاستنتاجات المناسبة، خاصة عند إجراء التحليلات على بيانات مجموعة فرعية فقط من العينة الأصلية.

      ومن زاوية أخرى، فالقيود المفروضة بصورة مقصودة أو غير مقصودة من الباحث تؤثر عل الصدق الداخلي أو الخارجي للبحث، وبالتالي تمثل هذه القيود مهددات لدقة نتائج البحث أو مهددات تضعف قدرة الباحثين على تعميم النتائج على مجتمع البحث. ومن الأمثلة على مهددات الصدق الداخلي: أثر الأحداث الخارجية على الدراسة (التاريخ)، والتغيرات لدى المشاركين بسبب مضي الوقت (النضج)، بدلا من تأثير العامل المبحوث، وانسحاب المشاركين (الاستنزاف)، والتغيرات في استجابات المشاركين بسبب قياس المشاركين مرات متعددة (تأثير الاختبار)، والتعديلات على الأدوات، واختيار المشاركين عل أساس الدرجات القصوى التي ستتراجع نحو المتوسط نتيجة الاختبارات المتعددة (الانحدار نحو المتوسط). أما مهددات الصدق الخارجي فتمثل عوامل قد تحول دون تعميم النتائج من عينة الدراسة إلى المجتمع المستهدف. لذا، ينبغي أن تعرض القيود بشفافية عند تقديم النتائج لإعلام القراء بأي تحيزات معروفة أو خفية محتملة قد يكون لها أثر على نتائج الدراسة أو على قدرة الباحثين عل تعميم النتائج خارج العينة.

      ويمكن عرض قيود الدراسة ومناقشتها إما في بداية مناقشة النتائج لتمثل تمهيدًا للقارئ لفهم النتائج في ضوئها، أو يمكن عرضها في ختام المناقشة كمبرر للحاجة إلى مزيد من الدراسات حول الموضوع الحالي، إلا أنه لا يفضل عرض القيود في أثناء المناقشة ما لم يكن القيد محددا لشيء مشمول في ذلك الجزء. ويستحسن عند عرض القيود وصف كل قيد بعبارات مفصلة، وشرح سبب وجوده، مع تقديم المبررات التي توضح صعوبة التغلب عليه باستخدام الإجراءات المختارة، وتقييم التأثير المحتمل له على نتائج واستنتاجات الدراسة، وبالإضافة إلى ذلك يمكن تقديم وصف لأبحاث مستقبلية مرتبطة هذا القيد، ففي كثير من الأحيان يوجه نقاش القيود إجراء دراسات مستقبلية جديدة.

      وختاما، فإن الحكم عل جودة البحث العلمي يتم بتقييمه في ضوء معايير عدة، ومنها أسلوب معالجة القيود التي واجهها الباحث، وتعد كيفية تفسير النتائج في نطاق قيودها التي فرضت عليها أحد أهم الأسباب التي تجعل هيئة التحرير أو المحكمين يوصون بقبول أو عدم قبول البحث. لذا، على الباحثين عرض قيود دراستهم، وكيفية تعاملهم معها بشفافية عالية، بدلا من تركها مبهمة لا تعكس صورة الباحث المتمكن ذي المصداقية البحثية لدى هيئة التحرير والمحكمين.

 

عضو هيئة تحرير مجلة العلوم التربوية - جامعة الملك سعود 
أ. د. رياض بن عبد الرحمن الحسن

 

تاريخ آخر تحديث : مارس 4, 2023 8:46م